هل وجود الغير ضروري لوجود الشخص؟
أولا: المقدمة 4ن
انطلاقا من المفاهيم
المتضمنة في هذا السؤال الفلسفي قيد الاشتغال (الحرية، الشخص، الغير
...) يتضح لنا أنه يتموضع داخل مجال مجزوءة
الوضع البشري التي تهتم بدراسة الإنسان في بعديه الرئيسيين
المتمثلين في البعد الذاتي والبعد العلائقي. كما يعني جميع المحددات التي تحدد
وتتحكم في الوجود الانساني وتميزه عن باقي الكائنات الأخرى ويتأطر السؤال
تحديدا ضمن مفهوم الغير الذي
يقصد به الأنا الذي ليس أنا والذي يشبهني في كونه ذات واعية ومفكرة، وفي نفس الوقت
يختلف عني، وبالتمعن في دلالة هذا السؤال الفلسفي المطروح نجده يسلط الضوء
على إشكالية وجود الغير وبذلك
فهو يفضي الى مفارقة واضحة
تتمثل في أن وجود الغير إيجابي وضروري من
جهة باعتباره العنصر الأساسي الذي تدرك به الأنا ذاتها ووجودها باعتباره الوسيط
الوحيد الذي تعي به الأنا ذاتها، فمن خلال إحساس الذات بالغير تحس بذاتها ومن خلال
معرفة خصوصية الغير ندرك خصوصياتنا، إلا أنه من جهة أخرى يعتبر وجود الغير تهديدا لكيان الشخص وسالبا لحرية الأنا وعفويتها
بل أكثر من ذلك فوجود الغير يقضي على كل خصوصية وتميز للأنا ومن تم تذوب الأنا في
ذلك الوجود وترفع بذلك من سلطة الغير إذن استنادا إلى
هذه المفارقة الفلسفية يمكننا طرح مجموعة من الاشكالات من قبيل : هل وجود الغير ضروري لوجود الشخص؟ أم أنه غير ضروري؟ أم هما
معا؟
ثانيا: التحليل
إذن
كخطوة أولية لمقاربة الإشكال الذي ينطوي عليه السؤال المطروح ومناقشة إشكالياته
المطروحة أعلاه يقتضي الأمر الحسم مع الحروف والألفاظ والمفاهيم المؤثثة
لبنيته حيث نجد أنه يفتتح بحرف استفهام هل يحمل في طياته سؤال استفهام للتخيير بين
قضيتين متقابلتين يحتمل الإجابة عنها إما بنعم أو لا، فمن جهة يمكن القول نعم وجود
الغير ضروري لوجود الشخص. ومن جهة أخرى يمكن القول لا وجود الغير غير ضروري لوجود
الشخص. أما مفهوم الشخص فيحمل في دلالته تعريفا يمكن اعتباره على
أنه " الذات الواعية القادرة على التمييز بين الخير والشر وتشترك في وجودها
مع وجود الغير". والغير يقصد به
" الأنا الذي ليس أنا والذي يشبهني ويختلف عني في نفس الوقت." وتكمن العلاقة بين هذه المفاهيم في
أنها علاقة تقابل، وهو ما يفضي بنا إلى أطروحة فلسفية مصرح بها هي أن " وجود
الغير ضروري لوجود الشخص". إذ بدونه لا يمكن للشخص أن يعرف ذاته وأن يعي
إمكاناته، لأنه بوجود الغير يدخل الشخص في علاقة جدلية مع الطرف الآخر ومن خلال
الصراع معه يدرك إمكانياته كما يدرك حدوده، وأحيانا لا ينتزع اعترافه به كشخص حر
إلا من خلال الغير. وهي الأطروحة التي نجد لها حضورا قويا لدى الفيلسوف الألماني
فردريك هيجل 1770-1831م الذي يعتبر أن الغير الوسيط أساسي لتحقق
الأنا الاعتراف بها كذات واعية ومستقلة، فكل من الأنا يسعى لنزع الاعتراف به كذات
حرة وواعية، إلا أن هذا الاعتراف لا يمنح بشكل سلمي، وإنما ينتزع عبر صراع يخاطر
فيه الطرفان معا بحياتهما حتى الموت، ولكن الموت الفعلي لا يحقق هذا الاعتراف، بل
يحققه استسلام أحد الطرفين، بتفضيله حياة التبعية على الموت الفناء. وبالتالي
فوجود الغير حسب هيجل ضروري لوجود الأنا، مادام أن السيد لن يكون سيدا إلا بوجود
العبد الذي يعترف له بهذه السيادة، يقول هيجل " الحرية هي الصراع من أجل
انتزاع الاعتراف". ولتأكيد هذه الفكرة يمكن استحضار الكثير من الأمثلة سواء
من الواقع المعيش، الذي يؤكد أنه لا يمكن للإنسان أن يحس بأناه وذاته إلا من خلال
الآخر ولو كان الصراع هو الذي يطبع أحيانا العلاقة بين شخصين، فمن خلال الصراع
تدرك كل واحد منهما ذاته كما الآخر. ورغم أهمية التصور أعلاه
نتساءل: هل بالفعل الغير عنصر لابد منه من أجل الشخص؟
ثالثا: المناقشة
جوابا
على هذا السؤال نستحضر بعض المواقف الفلسفية التي تؤكد العكس باعتبار
أن الغير ما هو إلا مصدر سلب وقضاء وتوقيف لحرية الأنا. ووجودها مع الغير يشكل
تهديدا لها حيث تفقد الأنا ماهيتها وتفردها وتقع تحت قبضة الغير الذي يلغي
خصوصيتها ويرغمها على التخلي عن وجودها وتصبح الأنا بمعنى الشخص فاقدا لأي حرية
شخصية.
وهو
ما يؤكده مثلا الفيلسوف الألماني مارتن هايدجر 1889-1976 الذي يؤكد عكس هيجل
في كتابه " الوجود والزمان"، الشخص الذي يسميه "
الدازين"،بمعنى الشخص الحر المنفتح على الوجود، ليس في حاجة إلى وساطة لمعرفة
ذاته ووجوده، لأنه الغير ليس إلا عنصر تهديد، لأنه يفرغ الذات من كينونتها ووجودها
الأصيل، ويختفي ضمير الفرد " أنا"، ليتحول ليهيمن ضمير "
النحن"، وبالتالي يذوب الشخص في الجماعة، ويفقد أصالته، وهو الأمر الذي يميز
العالم الحديث كما يقول هايدجر، خاصة مع ظهور وسائل النقل الحديث والإعلام والرياضة،
التي تقوم بتذويب هوية الشخص وكينونته في ضمير الجماعة. وفي نفس الاتجاه فإن
نظرة الغير للشخص فما هي إلا بمثابة السبب الرئيسي لفقدان الأنا لحريتها وعفويتها.
ففي تجربة الشعور بالخجل مثلا حسب جون بول سارتر 1905-1980م الإنسان حينما يكون
وحده فإنه يتصرف بعفوية وتلقائية وحرية دون قيد أو شرط وما أن ينتبه إلى أن أحدا
ما يراقبه حتى تتجمد أفعاله وحركاته ويفقد عفويته وتلقائيته بل أكثر من ذلك يصبح
وجوده لا قيمة له ويذوب وجوده في وجود الأغيار الذين يسلبونه كينونته وتميزه فيصبح
مقيدا ضمن ضمير الجماعة "نحن". لكن رغم هذا التهديد الذي يمارسه الغي
حسب سارتر إلا يبقى شرطا ضروريا لتدرك الذات نفسها حسب سارتر.
رابعا: التركيب
من
خلال تحليلينا ومناقشتنا للسؤال الفلسفي أعلاه يتبين أن إشكالية وجو د
الغير، قد أفرزت مجموعة من التصورات الفلسفية المتعارضة: فمن جهة يذهب
الاتجاه الأول الذي يمثله الفيلسوف هيجل إلى أن الغير شرط ضروري لمعرفة الذات
لذاتها ولتحقيق الاعتراف بها. أما الاتجاه الثاني: فيؤكد أن وجود غير
عنصر تهديد لحرية الشخص وكينونته ووجوده الأصيل، مادام يفقد الذات من حريتها
وأصالتها ويدمجها في الجماعة وفي ضمير النحن. أما سارتر فيؤكد على تصور
توفيقي بين كلا الأطروحتين ويؤكد أن الشخص شرط ضروري لوجود الشخص
ولمعرفته لنفسه، وفي الوقت يشكل تهديدا عبر نظرته وسلبه لحرية الشخص. وهو
الموقف الذي نجده منسجما مع موقفنا من الإشكالية، لأن الغير ورغم تهديده والصراع
معه، إلا أنه من خلال ذلك الصراع نحقق معرفتنا بذاتنا وبحريتنا.
وفي
الأخير نتساءل: إن كان الشخص شرط لمعرفة الذات، فهل
يمكن معرفة الغير؟ أم أن معرفته تظل مستحيلة؟
;;,,n
RépondreSupprimerابتسام
RépondreSupprimer