المحور الأول : هوية الشخص ( نموذج تحليل نص فلسفي)
التصور الفلسفي التجريبي" جون
لوك": النص في الكتاب في المدرسي
الفئة المستهدفة: الثانية بكالوريا
"
لكي نهتدي إلى ما يكوّن الهوية الشخصية لابد لنا أن نتبين ما تحتمله كلمة الشخص من
معنى. فالشخص، فيما أعتقد، كائن مفكر عاقل قادر على التعقل والتأمل، وعلى الرجوع
إلى ذاته باعتبار أنها مطابقة لنفسها، وأنها هي نفس الشيء الذي يفكر في أزمنة
وأمكنة مختلفة. ووسيلته الوحيدة لبلوغ ذلك هو الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله
الخاصة. وهذا الشعور لا يقبل الانفصال عن الفكر، بل هو، فيما يبدو لي، ضروري
وأساسي تماما بالنسبة للفكر، مادام لا يمكن لأي كائن [بشري]، كيفما كان، أن يدرك
إدراكا فكريا دون أن يشعر أنه يدرك إدراكا فكريا.
عندما
نعرف أننا نسمع أو نشم أو نتذوق أو نحس بشيء ما أو نتأمله أو نريده، فإنما نعرف
ذلك في حال حدوثه لنا. إن هذه المعرفة تصاحب على نحو دائم إحساساتنا وإدراكاتنا
الراهنة، وبها يكون كل واحد منا هو نفسه بالنسبة إلى ذاته، وفي هذه الحالة لا نأخذ
في الاعتبار ما إذا كانت الذات نفسها تبقى مستمرة في الجوهر نفسه أو في جواهر
متنوعة. إذ لما كان الشعور يقترن بالفكر على نحو دائم، وكان هذا هو ما يجعل كل
واحد هو نفسه، ويتميز به، من ثم، عن كل كائن مفكر آخر، فإن ذلك هو وحده ما يكون
الهوية الشخصية أو ما يجعل كائنا عاقلا يبقى دائما هو هو. وبقدر ما يمتد ذلك
الشعور بعيدا ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، بقدر ما تمتد هوية ذلك الشخص
وتتسع. فالذات الحالية هي نفس الذات التي كانت حينئذ، وذلك الفعل الماضي إنما صدر
عن الذات نفسها التي تدركه في الحاضر."
جون لوك، مقالة في الفهم البشري، الكتاب II فصل 27، فقرة 9
ترجمه إلى الفرنسية كوسط، ونشره إميليان نايرت، فران، 1994 ص : 264-265 الكتاب
المدرسي: في رحاب الفلسفة
أولا: مطلب الفهم
يتأطر النص الماثل أمامنا ضمن مجزوءة الوضع
البشري، تحديدا مفهوم الشخص وهو البعد الذاتي الذي يشكل هذا الوضع، ويعالج قضية
الهوية الشخصية، ويمكن صياغة إشكال النص على الشكل التالي:
ما الذي يحدد الهوية الشخصية؟ ما الذي يجعل الشخص هو هو في كل زمان
ومكان رغم تغير مجموعة من مظاهره الخارجية؟ هل ينفصل شعور الإنسان عن فكره؟
ثانيا: مطلب التحليل
جوابا عن السؤال الإشكالي المطروح، يؤكد صاحب
النص على أن: التجربة الشعورية هي أساس الهوية الشخصية. بمعنى أن الإنسان يبقى
ثابتا كذات بفضل تجاربه الحسية التي ترافق تجربته الوجودية، بمعنى أن الإنسان
حينما يفكر فتلك الأفكار ليست فطرية -كما يقول ديكارت- بل هي مرتبطة بالتجارب التي
يمر منها الإنسان.
وهذا
النص هو رد مباشر على الاتجاه العقلاني لديكارت.
وقد
انطلق صاحب النص في عرضه للأفكار من الفكرة الأساسية التالية:
أن
الشخص هو ذلك الكائن المفكر والمطابق لنفسه، ووسيلته في ذلك هي الشعور. هذا الأخير
الذي لا يقبل الانفصال عن الفكر يقول جون لوك: لا يمكن لي كائن بشري، أن يدرك
إدراكا فكريا دون أن يشعر بأنه يدرك إدراكا فكريا.
أما
في الفقرة التالية:
فيكر
صاحب النص مجموعة من الأمثلة من أجل التأكيد على أن الإنسان حينما يدرك إدراكا
عقليا فلا يمكنه القيام بذلك إلا عبر مجموعة من الإدراكات الحسية (الشم، السمع،
التذوق، اللمس...)
يخلص
صاحب النص في الفقرة الأخيرة إلى أن ما يجعل هوية الشخص ثابتة هو: ارتباط إدراكه
الحسي بشكل دائم بإدراكه العقلي في الزمان والمكان.
وقد
وظف صاحب النص مجموعة من المفاهيم الفلسفية:
الهوية الشخصية: وهو مفهوم فلسفي يدل على
الجوهر الثابت لدى الشخص ويربطه جون لوك بالشعور.
الشخص: كائن مفكر قادر على التعقل والتأمل.
الشعور: هو مجموعة من الإدراكات الحسية
(الشم، الذوق، اللمس، السمع..) التي من خلالها يدرك الإنسان ذاته ومحيطه والتي
تكون لديه إدراكاته العقلية.
إن
العلاقة بين هذه المفاهيم هي علاقة تكامل وترابط وتلازم، لأن الشعور مرتبط بالهوية
الشخصية وملازم لها، والهوية الشخصية هي التي تحافظ على وحدة الشخص وثباته.
وقد
وظف صاحب النص مجموعة من الحجج والبراهين من أجل الدفاع عن دعواه، ومن بين هذه
الحجج:
التعريف: حيث يعرف في بداية النص مفهوم الشخص
من خلال قوله " ...كائن مفكر قادر على التأمل والتعقل)
المثال: وذلك من خلال توظيف الفيلسوف
لمجموعة من الأمثلة:" الشم، السمع، الذوق، الإحساس..).
الدحض: حيث يدحض الفيلسوف أطروحة ديكارت
القائلة بأن الشعور ينفصل عن الفكر.
ثالثا: مطلب المناقشة
تتجلى قيمة هذا النص في تأكيده على قيمة
التجارب الحسية، أما من الناحية التاريخية فقد شكل هذا النص تجاوزا للاتجاه
العقلاني لديكارت، كما أثر هذا النص على مجموعة من المدارس الفكرية والفلسفية خاصة
الأنجلوسكسونية.
ولكن
رغم أهمية النص إلا أن هناك عدة مواقف أخرى معارضة لدعواه، نجد مثلا الفيلسوف
العقلاني ديكارت يؤكد على أطروحة مغايرة
مفادها:
أن
هوية الشخص تتحدد بالعقل المجرد، باعتباره نورا فطريا، وهو الوسيلة لحضور
الذات أمام نفسها، فجوهر الإنسان هو العقل والخاصية الأساسية للعقل هي التفكير حيث
يقول: " أي شيء أنا إذن؟ أنا شيء مفكر." ومعنى ذلك أن الإنسان يبقى
ثابتا لأنه يفكر وحينما يتوقف عن التفكير فإنه يتوقف عن الوجود وهنا يقول ديكارت:
" أنا أشك، أنا أفكر، إذن أنا موجود".
أما
خلال القرن 19، فستظهر نظرية في مجال علم النفس ستحاول تجاوز التصور الفلسفي،
وستقول بأن جوهر الإنسان ليس هو العقل ولا الشعور، بل هو اللاشعور وهو ما
أكده الطبيب النمساوي سيجموند فرويد مؤسس
نظرية التحليل النفسي. وتؤكد هذه النظرية على أن الإنسان يمتلك جهازا نفسيا هو
الذي يتحكم في كل أفعاله وتصرفاته وينقسم هذا الجهاز النفسي إلى ثلاثة عناصر:
الجانب الغريزي: الهو، الجانب الواقعي: الأنا، الجانب الأخلاقي: الأنا الأعلى.
رابعا: مطلب التركيب
من خلال تحليلينا لهذا المحور، يتبين لنا أن إشكالية الهوية
الشخصية، من أهم القضايا التي اهتم بها الفلاسفة على مر تاريخ الفلسفة، وهو ما خلف
جدلا مستمرا، حول الكشف عن الماهية الثابتة التي تجعل الشخص ثابتا رغم تغير أحواله
في الزمان والمكان، فهناك من يربط الهوية بالجانب العقلي باعتباره هو المحدد
للذات، وهو ما يؤكد عليه الاتجاه العقلاني، وهناك من يحدده بالجانب الحسي الشعوري
وهو ما يؤكد عليه الاتجاه التجريبي. فيما جاءت نظرية التحليل النفسي لتغليب الجانب
اللاشعوري النفسي في تحديد الهوية الشخصية، مؤسسة بذلك لاتجاه دينامي للهوية عكس التصورات
الماهوية في الفلسفة الكلاسيكية. خلاصة القول أن الهوية الشخصية لا يمكن حصرها في
جانب واحد وإهمال جوانب أخرى، لذلك فهي نتيجة تفاعل كل هذه الجوانب العقلية
والحسية والنفسية. لأن الإنسان كائن متعدد الأبعاد. وهو ما ينسجم كذلك مع الفكر
الفلسفي باعتباره فكرا متعددا ونسبيا. وفي الأخير نتساءل: ما الذي يحدد قيمة الشخص؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire