هل العنف مشروع ؟
أولا: مطلب الفهم
من خلال المفاهيم
المتضمنة في السؤال ( المشروعية ، العنف )، يتبين لنا أن السؤال الماثل
أمامنا ينتمي إلى المجال الإشكالي العام لمجزوءة السياسة، وهي من
المواضيع الفلسفية التي تربعت على عرش الفلسفة منذ اليونان، ويقصد بالسياسة ممارسة السلطة وكيفية توزيعها في مختلف وحدات المجتمع.
يعالج
السؤال مفهوم العنف تحديدا، الذي يقصد به المبالغة في استخدام القوة تجاه الغير أو العالم الخارجي بنية إخضاعه
لإرادة الذات. وتتمحور إشكالية السؤال حول قضية مشروعية العنف. ويمكن صياغة تساؤلاته الأساسية .
على
الشكل التالي؟
هل العنف مشروع ؟ أم غير مشروع؟ إن كان الجواب بنعم، فمتى يكون
كذلك وماهي المبررات التي تبرر ممارسته؟
وما هي الجهة المخول لها استعماله ؟ أم أن العنف رذيلة تتعارض مع الأخلاق
لذلك وجب تعويضه باللاعنف ؟
ثانيا: مطلب التحليل
إن مقاربة السؤال قيد التحليل
والمناقشة تقتضي منا من الناحية الاجرائية تفكيكه وشرح ألفاظه ومفاهيمه.. وقد جاء
السؤال مسبوقا بأداة استفهام
" هل" وهي أداة استفهام غالبا ما تقرن بين قضيتين اثنتين واجابتين مختلفتين. تكون إحداهما ظاهرة من منطوق السؤال
والثانية تكون مضمرة.
والسؤال
الذي بين أيدينا يؤكد من جهة على أن العنف
مشروع ويمكن ممارسته وفق القانون، كما يحيل السؤال عل أخرى مضمرة
وغير واضحة وهي التي تؤكد على أن العنف غير مشروع، ومن بين المفاهيم الأخرى
التي يتضمنها السؤال نجد مفهوم "العنف"، وهو افراط في استعمال القوة تجاه الخر أو العالم الخارجي بنية إخضاعه لإرادة
الذات، أما المشروعية وهي المبررات التي تجعل شيئا مقبولا ومسموحا ومن بين هذه المبررات هي أن
تكون الحقوق الانسانية هي المحدد للعلاقات الاجتماعية والسياسية.
من
خلال تعريف المفاهيم، لابد من كشف العلاقة التي تربط فيما بينها وهي
"علاقة انسجام
وتكامل" وذلك إن أخذنا بعين الاعتبار أن الدولة لا
يمكن أن تقوم على احتكار العنف المشروع، وهي من جهة أخر ى علاقة تضاد إن أخذنا بعين الاعتبار
العنف كسلوك مرفوض وغير مشروع.
إذن يتعلق الرهان الأساسي في هذا السؤال بالحديث عن الدولة كجهاز يحتكر العنف المادي
المشروع وهي الأطروحة
الأساسية التي يصرح بها السؤال ونجد لها حضورا قويا لدى السوسيولوجي
الألماني ماكس فيبر، الذي يؤكد على أن الدولة الحديثة تقوم على العنف
أساسا، فالتعاقد الاجتماعي يقتضي التنازل للدولة عن حق استعمال العنف، إذ هي
الجهاز الوحيد الذي يحتكره باعتبارها تنظيما سياسيا يتم فيه تقسيم السلط ومراقبتها
بعضها للبعض الخر ( السلطة التشريعية، السلطة التنفيذية، السلطة التشريعية.)
العنف المشروع لا يجب أن يفهم أن أي دولة يمكنها أن توظفها، لأن من شأن ذلك أن
يستعمل لقمع الأصوات المعارضة لها، لهذا فالدولة التي يقصدها فيبر هي الدولة
الحديثة التي تستمد مشروعيتها ليس من الماضي
الأزلي، أو من سلطة الكاريزما الشخصية، بل إنه يقصد الدولة
الديموقراطية التي تقوم شرعيتها على المؤسسات والتعاقد الاجتماعي والحرية.
أما العنف الذي قد تمارسه دولة مسنودة بشرعية تقليدية فهو نوع من التسلط والقمع،
خاصة إن كان ذلك العنف موجها لقمع الأصوات المطالبة بالتغيير، ولنأخذ هنا مثال
الدول العربية التي توظف العنف الذي يتجاوز أحيانا الحدود القانونية
وذلك ليبقى الحكام على عروشهم خالدين. لذلك فنمط
الدولة التي مازالت قائمة في البلدان العربية هي نمط الدولة
السلطانية التقليدية القائمة على الطاعة العمياء والولاء المطلق كما يصفها الفيلسوف
المغر بي عبد الله العروي.
إن العنف حسب فيبر ليس هو الوسيلة الوحيدة للدولة
الحديثة ولكنه وسيلتها المميزة ، إن الدولة المعاصرة تُعرف العنف عندما تقتضي
الحاجة إلى ذلك، مثلا لحماية النظام العام داخل المجتمع ولقمع
الشغب والتخريب وكل الانفلاتات الامنية التي أمن وسلامة
المواطنين. كما تلجأ إليه الدولة لحماية حدودها وصد الهجمات التي قد
يشنها عليها أعداءها من الخارج، وفي هذا الاتجاه يقول الزعيم الروسي تروتسكي
" تقوم كل دولة على العنف".
ثالثا: مطلب المناقشة
من خلال ما سبق يتبين لنا أن الأطروحة التي يتبناها ماكس فيبر جاءت متوافقة
مع موقفه السوسيولوجي الواقعي، الذي ينظر إلى الظواهر الاجتماعية
بكل حيادية دون محاولة اسقاط قناعاته الأخلاقية على موضوع دراسته، مقتديا في ذلك
بميكيافيل الذي كان أول من حاول فهم السياسة عبر فصلها عن الأخلاق. ولكن رغم قوة
موقفه و واقعيته إلا أنه يبقى رغما ذلك ناقصا في بعض الجوانب لذلك نتساءل: ماهي
محدودية هذا التصور ؟ وهل فعلا لا غنى عن استعمال القوة والعنف ؟ ألا يتعارض هذا
القول مع القيم الأخلاقية ؟
وفي هذا الاتجاه تحضر مجموعة مجموعة من المواقف
الفلسفية ولعل أهمها، موقف
الزعيم الهندي الماهاتاما غاندي الذي يقول بفلسفة اللاعنف، فهو مناهض لكل
أشكال العنف ومظاهره مهما كانت الأسباب والدوافع والظروف. فالعنف بالنسبة له شيء
سلبي وهدام، ولا يمكن أن يصلح لبناء أي
شيء، إنه نية سيئة تغمض العقل، أما اللاعنف الذي يدعو إليه فهو نضال ايجابي ضد
الشر والحقد وكل المظاهر السلبية. إذن فالعنف رذيلة ولا مشروعية له ولا يمكن أن
يحقق أي نتيجة وبالمقابل فاللا عنف هو إرادة طيبة اتجاه كل ما يحيى إنه حب كامل ومكتمل.
رابعا: مطلب التركيب
بعد رحلة التحليل والمناقشة نكون قد وصلنا إلى نهاية إنشائنا الفلسفي، و
قبل الختم نذكر بأهم المواقف التي تناولناها للإجابة عن قضية "مشروعية
العنف" . فمن جهة هناك من يقول بأن عنف الدولة مشروع وهي الجهاز الذي له الحق في احتكاره واستعماله
في ضبط الحياة الاجتماعية وحماية النظام العام. ومن جهة هناك هناك
اتجاه يرفض العنف جملة وتفصيلا، كما ذهب إلى ذلك الزعيم الهندي غاندي الذي يعتبره
رذيلة.
ورغم التناقض الظاهر الظاهر بين الموقفين إلا أنهما يتفقان
في بعض الجوانب، إن أخذنا بعين الاعتبار المنطلقات التي ينطلق منها كل موقف، ففيبر
ينطلق من وجهة نظر عالم الاجتماع الذي
يتوخى فهم الظواهر الانسانية دون أي رهان أخلاقي. أما غانذي فقد كان زعيما سياسيا
وروحيا للهند خاصة في نضالها، ضد الاستعمار والعنف الذي استعملته الدولة الانجليزية
في وجه الهنود. لذلك أجد أنفسي في موقف وسط بين الموقفين، فأنا من
جهة أرفض العنف بكل أشكاله، لكن أعتقد أن الدولة لايمكنها أن تدوم بدون جهاز قمعي
يحفظ بقائها وهيبتها، لكن بشرط، أن تكون دولة ديموقراطية قائمة على الحرية ،
لادولة استبدادية. لذلك نتساءل في الأخير: كيف يمكن أن تتحقق العدالة في
دولة الحق والقانون ؟
Aucun commentaire:
Enregistrer un commentaire