samedi 1 décembre 2018

فيلم "شجرة الحياة": رحلة سيريالية لاكتشاف أسرار الكون





أمير العمري

بعض الأفلام لا يمكن الاكتفاء بمشاهدتها مرة واحدة فقط للإحاطة بها وبكل ما تتضمنه من إشارات، ورموز، وإيحاءات ، ومعان، وصور، قد تبدو متعارضة أو متناقضة أو ربما توجد في سياق لا يسهل تفكيكه بصريا للوهلة الأولى، أو من المشاهدة الأولى.

من هذه الأفلام الفيلم الحائز على "السعفة الذهبية" في "كان" والذي كنا ننتظره منذ سنوات، وهو فيلم "شجرة الحياة" The Tree of Life للمخرج الأمريكي تيرنس ماليك.

وقد شاهدت الفيلم للمرة الأولى عند عرضه في مسابقة مهرجان كان السينمائي ولكني عدت لمشاهدته مرة ثانية في اليوم الأخير من أيام المهرجان حينما يعاد عرض جميع أفلام المسابقة في مواعيد محددة لمن فاته مشاهدة البعض منها. وفي المشاهدة الثانية، أمكنني أن أتأمل، وأغوص في أعماق الفيلم، وأتمكن ولو بشكل ما، من تفكيك بعض عناصره، والأهم من هذا، الاستمتاع به وبإيقاعه الموسيقي الذي يقترب من إيقاع السيمفونية بل هو أقرب الى البناء السيمفوني ولكنه هنا، بناء بصري، مركب بدقة وبحيث يعبر عما يدور داخل عقل وقلب ووجدان ذلك السينمائي الأشهر الذي لم يخرج سوى خمسة أفلام فقط خلال ما يقرب من 40 عاما، وهذا الفيلم هو خامسها.

يتعين علي الاعتراف بأن "شجرة الحياة" من الأفلام التي يطلق عليها البعض "أفلاما صعبة" أي مركبة في بنائها ودلالاتها، فليس من الممكن قراءة واستيعاب كل ما تتضمنه من معالم وإشارات، من المستوى الأولى الخارجي، بل لابد من الغوص قليلا في أعماقها لكي يتمكن المشاهد من الاستمتاع بها.

تيرنس ماليك ليس كسائر المخرجين الأمريكيين، فهو ينتمي إلى فصيلة أورسون ويلز، أي أنه لا يخضع للمواصفات السائدة التي تفرضها ستديوهات هوليوود على المخرجين الأمريكيين وغير الأمريكيين في العمل، بل يعبر عن رؤيته الخاصة للعالم، من خلال إعادة تشكيل الأدوات التي يستخدمها في التعبير عن تلك الرؤية. هذه الرؤية تجنح عادة في كل أفلامه، إلى الميتافيزيقي والروحاني مضمونا، وتميل في "شجرة الحياة" بوضوح، إلى السيريالي شكلا.

هنا نحن أمام شخصية رئيسية هي شخصية "جاك" الذي نراه في البداية بعد أن أصبح رجلا في الخمسين من عمره أو ما يزيد، يعمل في أحد مكاتب الهندسة المعمارية في نيويورك، لكنه وهو ينشغل بالتطلع الى التصميمات الهندسية على شاشة الكومبيوتر، يسرح ببصره إلى النوافذ الزجاجية الضخمة التي تحلق على غابة ناطحات السحاب في المدينة المتوحشة، يتطلع إلى الماضي، ويعود بذاكرته إلى نشأته وهو بعد صبي، في بلدة من ولاية تكساس في خمسينيات القرن الماضي. وهكذا يعبر بنا تيرنس ماليك، من الحاضر الذي لا يعيره عادة اهتماما كبيرا ويعتبره مرادفا للتفكك والانهيار الروحي والأخلاقي والاجتماعي والإنساني، إلى الماضي الذي يعبر من خلاله في كل أفلامه السابقة، عن نزعة "ماضوية" بالمعنى الفلسفي، أي باعتبار الماضي مرادفا للبراءة، للبدايات، لتفتح الوعي على مكونات الدنيا والعالم، لطرح التساؤلات الصعبة عن معنى الوجود، ومغزى تلك الحياةعلاقة الإنسان بالطبيعة، وما يفعله بنا فراق الأحباء بالموت، بل ومغزى الموت نفسه. كل هذه المعاني لها ما يعادلها بصريا في سياق هذا الفيلم الذي قضى مخرجه نحو ست سنوات قبل أن يتمكن من الشعور بالرضا عنه، وجاء في ساعتين و18 دقيقة. 

جاك يمرح مع شقيقيه في المزارع امحيطة ببيت الأسرة، ولكن ما هو أهم من الشقيقين والأكثر تأثيرا على حياة جاك وشقيقيه، هما الأب والأم، وهما شخصيتان مفصليتان في الفيلم: الأب يدعى مستر أوبريان دون أن نعرف اسمه الأول (يقوم بدوره ببراعة نادرة الممثل براد بيت ربما في أهم أدواره على الإطلاق حتى الآن).. وهو رجل حائر ممزق بين ميوله الفنية الموسيقية في الماضي التي لم تتحقق، وما يمكن أن يكون قد نتج عن ذلك من "إحباط"، وبين دوره الحقيقي الآن كموظف في شركة أو مصنع قريب للمواد الزراعية في تلك المنطقة الريفية التي تتميز بغاباتها ومزارعها الشاسعة الخلابة.

إنه يعزف على آلة الأورج، وعلى البيانو في المنزل، ويدير أسطوانة السيمفونية الرابعة لبرامز خلال العشاء، لكنه أيضا يتمتع بروح "عملية" تهتم بالبيئة حقا ولكن على أسس منفعية مباشرة، وهو يربي أولاده بطريقة خشنة، جافة، رغبة منه في تنشئتهم أقوياء. وهم لذلك يشعرون بالخوف أمامه، لكنهم يحملون له ايضا الحب: إنه شكل أقرب إلى مزيج من الاحترام والهيبة، والتقدير والعرفان والارتباط بقوة أكبر، يمكنها أن تمنح الشعور بالأمان، لكنها تفرض شروطا معينة من الانضباط السلوكي في مقابل ذلك.

أما الأم فهي على النقيض من ذلك الطابع الجاف المهيمن، إنها امرأة متدينة شديدة التعمق في تأملها الصوفي الذي يجعلها تربي أبناءها على عدم اغضاب أحد، وهي تتمتم بآيات من الأنجيل قبيل تناول الطعام. إلا أنها تصاب بصدمة هائلة، تتعرض لها الأسرة كلها أيضا، بل وتفجع بتلقي خبر وفاة ابنها الغائب، على الأرجح في الحرب الكورية، فنحن نشاهد عسكريا شابا يأتي لابلاغها بالنبأ المحزن قبل أن يختفي بسرعة.

الأم تخوض في رحلة روحية تلغي الحدود بين الواقع والخيال، اهتمامها بأبنائها يصل درجة الهوس خوفا عليهم ورقتها مبالغ بها، في التعامل معهم على النقيض من الأب (أوبريان) الذي يمثل نوعا من الرمز الذي يجمع بين القوة والجبروت والرقة، وبين الفن والروح العملية، وبين الخشونة الذكورية، والالتزام بالتقاليد الأسرية.

أما بطلنا جاك فهو ذلك المتأمل الذي نسمع صوته على مقاطع من الفيلم يروي لنا جوانب من تلك التجارب الأولية التي تركت تأثيرها القوي عليه، في حين يسحبنا تيرنس ماليك خارج هذه العائلة التي يعتبرها أصل المجتمع الدنيوي وأساسه، بعد حوالي 20 دقيقة من بداية الفيلم، في رحلة "أوديسية" سيريالية تتشكل الرؤى فيها من لقطات عديدة تتشابك وتتعاقب في تشكيلات لونية مذهلة، شديدة الجمال، تمتزج بالموسيقى الكلاسيكية فتصبح تعبيرا روحيا عن ذلك الأفق الأوسع الذي يصبح فيه العقل البشري أدنى مما يعتقد، وأقل من أن يحيط ويستوعب: تشكيلات لصور من النباتات والأشجار والسحب والمحيطات والحشرات، ولنهر يعرج على احدى ضفتيه ديناصور جريح بينما يقترب منه ديناصور آخر، صحراء قاحلة برمالها الناعمة التي تنعكس عليها أشعة الشمس الحارقة، مجموعات من الكواكب والنجوم تدور في مجراتها.. إنها عودة إلى أصل الحياة، أصل الكون، الوجود: ما الذي يجعله يستمر، ما معنى الحياة نفسها، كيف يستمر الإنسان رغم الموت، ما الذي يمكن أن يسلب الإنسان الحياة. تساؤلات غير مباشرة تدور تحت جلد الصور دون أن ترتبط بالضرروة ارتباطا "دراميا" بمسار الفيلم.

 

هذه اللقطات السيريالية تستغرق نحو 18 دقيقة على دفعتين، وقد استعان المخرج في تنفيذها بخبير المؤثرات البصرية الشهير دوجلاس ترومبل المسؤول عن المؤثرات المشابهة التي استخدمها ستانلي كوبريك في فيلمه الأشهر "2001.. أوديسا الفضاء" وهو ما جعل البعض يقارن بين "شجرة الحياة" وبين فيلم كوبريك، من حيث علاقة الفيلمين بعالم الميتافيريقا، وبالبحث الشاق عن أصل الوجود.

وعلى الرغم من الصور الخلابة، والاستخدامات المحسوبة بدقة لحركة الكاميرا (وهي تتحرك كثيرا في هذا الفيلم) والاختيار الدقيق لزوايا التصوير بحيث تصبح العلاقة بين الشخصيات والمكان، بين الإنسان والعالم، علاقة عضوية وثيقة ذات مغزى في السياق، ورغم أن خمسة من المونتيرين عملوا على التحكم في مسار الفيلم، وحساب الانتقالات بين مشهد وآخر، وبين التجسيد المباشر، إلا أن الفيلم يعاني من بعض الاستطرادات والتكرار خاصة في المشاهد التجريدية للطبيعة والكون، والانفجارات الكونية، كما يفتقد الفيلم الى الرابط بين ظهور جاك (شون بن) في النهاية وبين الشذرات التي شاهدناها من حياته.. إن المدخل الدرامي للفيلم، أي شخصية جاك تضيع وتضل في النهاية عندما يظهر وهو يسير على شاطيء يغوض بقدميه مرتديا بزلته الرسمية وربطة عنقه، داخل المياه مبتعدا تدريجيا دون أن نعرف علام استقر ضميره أو انتوت نيته. لكن المؤكد أنه لم يصل قط إلى اليقين.

من البديع أن نجلس لنشاهد ونتأمل كل ذلك السحر الذي يكمن في مشاهد "شجرة الحياة"، نرتد إلى أصل الخلق، وأصل الحياة، نحاول أن نفهم سر وجودنا ووجود الكون والعالم، لكن الأهم في رأيي، ولعله من أهم ما نخرج به من هذا الفيلم الكبير، أننا نخرج ونحن أكثر حبا للطبيعة ولجمال الحياة، وأكثر تقديرا وحبا للخالق العظيم الذي صنع كل هذا الجمال في الكون، وكل ذلك التوازن، في الحياة، وفي الفن أيضا!




Aucun commentaire:

Enregistrer un commentaire